شومبيتر والفوضى الخلّاقة .. هدم الاقتصاد التقليدي

0 تعليق ارسل طباعة

1883م – مدينة تريست – جمهورية التشيك، ولِد الصغــير جوزيف شومبيتر بين ثنايا المدينــة الخاملة وفي نشوة ازدهار أوروبا والعصر الذهبي لها، ليكون بعد ما يقارب سبعة عقود من الزمن وبعد وفاته في منتصف القرن العشرين ايقونـة الاقتصاد الرأسمالي الجديد والداعم الأول للابتكار والريادة. شومبيـتر الاقتصادي المثير للجدل بالبدء من تجاهل أدم سميث ونظرياته وحتى النقد الحاد لكل من مارينارد كينــز وديفيد ريكاردو رجال التدخل الحكومــي في الاقتصاد الأوائــل والمناضلين الأشداء ضد الأسواق الحــرة، بسبب تثبيتهم لمتغيرات اقتصادية عديدة في نظرياتهم العلمـية ودراسة مدى تفاعل متغير وحيد على المتغيرات الثابتة الأخرى.

النقد الذي تبناه الجديد شومبيــتر على الاقتصاديين الأوائــل والمعاصرين منهم هو نتاج لنظرياتــه الفريدة من نوعهــا التي ربط بها كل من ريادة الأعمال والاقتــصاد مع بعضهم البعض. الربط الجديد من نوعــه أنتج النظرية الأشهر له وهي التدمير الخلّاق في الاقتصاد ودورة العمل والابتكار وريادة الاعمال. صنع شومبيتـر تناقض اقتصادي هائـل في وقت كان يتصـدر فيه كينــز ورِفاق التدخل الحكومي المشهد ومدرستـهم الاقتصادية المنتصرة حديثًــا بعد حطام الكساد العظيـم، ولكن بعد أعوام طويلــة أصبح شومبيتر حديث الجميع الان بعد خمول وعيش في الظــل امتد حتى وفاتـه.

الرائع شومبيتــر قدم العديد للاقتصاد الحديث، ولكن كانت نظرية ” التدمير الخلّاق ” التي جاء بها في بداية أربعينات القرن العشرين هي النظرية الأكثر ديمومة على الأطلاق. التدمير الإبداعي هو مسح وتفكيك متعمد (بقصــد) لجميع الممارسات والأفعال وخطوط الإنتاج القائمة لفترة طويلة من أجل فسح المجال للجديد من الابتكار والكفاءة والتكنولوجيا، ويعتبر هذا التدمير هو القوة الدافعــة للرأسمالية على وصف شومبيــتر، حيث قال عنه ” هو عملية طفرة صناعية تزعزع الهيكل القديم من خلال الثورة المستمرة في البنية الاقتصادية من الداخل، الثورة هذه تعمل بشكل مستمر على إعادة هيكلة الهيكل القديم وتجديده في كل مرة “.

نظرية التدمير الإبداعي تتناقض بشكل هائل مع نظريات الاقتصاد التقليدي التي تعمل على تحقيق التوازن على عكس ما يقول به شومبيتر من عملية اضطراب مستمرة في كل من العرض والطلب قادمة من الابتكار والمنافسة ومحاولة تحقيق الربح، حيث سيجد من يتمسك بالتكنولوجيا القديمة من منتجين وموارد بشرية نفسهم في مأزق اقتصادي هائل في حال لم يلتحقوا بالركب التكنولوجي والتقدمي الجديد القادم من رواد الأعمال الجدد. من الجدير بالذكر أن هذه النظرية التي شطرت الاقتصاد التقليدي جاءت من ستة أوراق فقط!

يرى شومبيتر والرفاق الذين تبنوا ما جاء به من بعده أن هذه الاضطرابات الاقتصادية القادمة من التدمير الخلّاق هي نعمة يحسد عليها الاقتصاد الرأسمالي الحديث، حيث هي السبب الأبرز في زيادة الإنتاجية والجودة وتقليل ساعات العمل وهي أيضًا ما تضيف وظائف ومستوى معيشة بشكل أعلى جودة مما هو عليه الحال دون هذا التدمير المستمر. هذا النمو والتطور ليس بالمجان، فإنـه في الجانب الأخر من الحكاية شخص ما أو صناعة ما أصبحت بشكل أسوأ ليس فقط على المدى القريب، بل للأبد – الجزار سيصبح أسوأ حالاً للأبد بوجود أله تقطيع لحوم تعمل بشكل دائم أوتوماتيكيًـا – فالتدمير الإبداعي في هذا المثال صنع جودة وسرعة في تقطيع اللحوم، ولكن دمر الجزار واقتصاده الصغير تمامًــا.

المثال الأبرز على عملية التدمير الخلّاق هو قطاع النقل في الولايات المتحدة، مع الظهور الأول للقطارات التي تعمل على الفحم تطورت الصناعة بشكل هائل، حيث يتم نقل النفط والبضائع والفولاذ والعديد من المواد التي تستخدم في النمو والتطور، بعد ذلك ظهرت السيارة والتي أنتجت بظهورها الأول طفرة اقتصادية على نطاق واسع لا يُحصر، ثم الطائرات التي بدورها خلقت تطور في كل جوانب الاقتصاد، هذه التطورات المستمرة جاءت بتدمير العديد على سبيل المثال – النجارين والحدادين وصانعي أدوات النقل القديمة والكثير مما لا يمكن ذكرهم لطول قائمة الدمــار!

نظرية التدمير لشومبيتر مبنيــة على مبادئ لتتم بشكل جيد ولتعمل على النمو والتغيير والتطور وهي الابتكار في المقام الأول، فدون الأفكار الإبداعية والتغيير التكنولوجي والتقني والابتكار لن تكون هناك منتجات جديدة رائدة تُزيح منتجات الماضي من طريقها، ثانيًـا المنافسة، فهي الوقود للسعي على أنتاج وتوليد منتجات جديدة تختلف علن ما ينتجه المنافسين وما ينتجه الماضي، فالسعي للربح والسيطرة على السوق والقطاع من الشركات يدفعهم على التفكير والبحث عن كل ما هو جديد ومؤثر ويقلل من التكاليف من جهة ويرفع الإنتاج والأرباح ومن جهة أخرى. ثالث المبادئ هي ريادة الأعمال والرواد، حيث يمكن اعتبارهم بأنهم هم وكلاء والوسطاء لتحقيق التدمير، فرواد الأعمال يكونون على مقربة تامة ومستمرة في كل جديد الأسواق والمنتجات والتقنيات للاستفادة منها وتحويلها الى منتج جديد يحقق عوائد مالية واجتماعية واقتصادية غير طبيعية. المبدأ الأخيــر هو رأس المال، أن الحاجة الى تطوير منتج جديد وتدمير منتج من الماضي مكلف بشكل باهض، ولتتمكن الشركات من ذلك لابد من أن تضخ مبالغ هائلة في هذا المجال لتحقيق الهدف المنشود.

على خطى الأجداد من النظريات والقصص، هناك جوانب إيجابية للتدمير الإبداعي يمكن ملاحظتها بسهولة في الأسواق الحديثة، ولكن لا يمكن تجاهل أن التدمير يخلق بطالة قد تكون مستمرة للأبد بسبب تدمير المنتج القديم أو الصناعة بشكل تام، أيضــًا تركز الثروة لدى من لديهم القدرة والعوامل المساعدة على الابتكار والأبداع والنفوذ هو الكابوس المخيف الذي يطارد شومبيتر وما جاء به. على الصعيد الأخر، هناك عواقب اجتماعية وبيئية لا تظهر الا بعد مرور سنوات طِوال من التدمير، لتكون بذلك كابوس أخر من المنتظر قدومــه على شومبيتر. على الرغم من ضربه المباشر في الاقتصاد التقليدي في العصر المجيد له الا أن شومبيتر لم يبرز بين الكبار الا بعد وفاتــه بأعوام، الان بدأ الجميع على يقين بأنه بين مصاف العظماء خصوصًا بعد تغير شكل الاقتصادي مما هو عليه منتصف القرن الماضي.

على كل محاسن الفوضى الخلّاقة، ولكن تعريفها الأخر وهو أن تتسلق السلم الطويل على أكتاف الحطام الناتج من التدمير الحاصل لمن هم أسفل السلم الهزيل.
اقتباس اقتصادي: ” إن الدافع الأساسي الذي يحرك الرأسمالية ويجعلها تستمر في الحركة يأتي من السلع الاستهلاكية الجديدة، وأساليب الإنتاج أو النقل الجديدة، والأسواق الجديدة، وأشكال التنظيم الصناعي الجديدة التي يخلقها المشروع الرأسمالي. ” – جوزيف شومبيتر

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق