قراءة نقدية (6) في حوكمة الرشوة والفساد في الشركات OECD 

0 تعليق ارسل طباعة

في الفصل السابع من المبادئ التوجيهية للشركات، أوضحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD أن تلك الشركات في خطر بسبب الرشوة وأنواع أخرى من الفساد، مثل: المتاجرة بالنفوذ، والاختلاس، وإساءة استخدام الرعايات والتبرعات الخيرية. لذا وحماية للشركات من هذا الداء أرشدت إلى عدد من الأمور والأخلاقيات لمحاربة الرشوة والفساد تكفل لها الاستدامة، ويمكن تلخيصها في النقاط الآتية: 

  1. عدم تقديم ميزة مالية أو غير مالية (غير مستحقة) لموظفي الدولة، أو لأي شركة لها علاقة عمل، أو أشخاص لهم صلة قرابة بموظفي الشركة أو أحد شركائها. وفي المقابل، فالشركة عليها الامتناع عن قبول مثل ذلك. 
  2. وضع ضوابط وبرامج لمنع الرشوة والفساد، والوعي بمخاطرها على الفرد واقتصاد الدولة مع اطلاع كل أحد عليها.  
  3. حظر المدفوعات التيسيرية (ما يُسمى في عرفنا: دهن السير)، ووضعها في ضوابط الشركة، وسياسية الالتزام. 
  4. توثيق إجراءات التوظيف، وتحديث قائمة الوسطاء المشاركين في أعمال شركات للدولة. 
  5. وفي مسألة تعارض المصالح، فالمنظمة علقت على هذا الأمر بأنه رغم عدم اعتباره فساداً إلا أن ثمة اعترافاً متزايداً بأن تضارب المصالح الخاصة إذا لم تُدار بشكل جيدٍ، فإنه قد يؤدي إلى فساد. 

في مدى تطبيق هذه التدابير في  شركات المملكة نجد عدداً من شركات القطاع الخاص قد جعل هذه الإرشادات في وثيقة لديه. على سبيل المثال: شركة الاتصالات كتبت وثيقة منشورة رائعة ومفصلة (سياسة مكافحة الاحتيال) في 17 صفحة، وتطرقت إلى مسألة مدفوعات التيسير (دهن السير) التي أشرنا إليها في الفقرة 3 أعلاه. كما تضمنت فقرة جيدة برقم ( 423) ذكرت فيها أن التبرع إلى منظمة خيرية بناء على طلب أو لمصلحة موظف حكومي أو موظف خاص أو طرف آخر أو فرد من عائلة الشركة أو أقارب شركائها؛ يعد رشوة حتى لو قدمت الى مؤسسة خيرية بحسن نية.  

وعلى ضفة أخرى وفي موقع ميدان (تابع لـ جزيرة نت) وجدتُ مقالاً  بترجمة فرح عاصم  2020.  المقال بعنوان “أكذوبة محاربة الفساد” ينتقد فيه أساليب مكافحة الفساد؛ حيث الدول القادرة على ملاحقته تُغفل نظرها عن الأدلة الواضحة، وتطارد دليلاً تختاره من بين أدلة مسكوت عنها. ويرى صاحب المقال بأن انتشار الفساد في الحكومات لا يقل عن انتشاره في شركات كبرى تدفع الرشى مقابل عقود واتفاقيات وإجراءات أخرى. والأسوء من ذلك أن كثيراً من البحوث التي تُنشر حول الفساد مضللة. فمثلاً: مؤشر الفساد الدولي التابع لمنظمة الشفافية الدولية (CPI) والذي يعتبر مرجعاً في الكثير من النقاشات الصحفية والسياسيّة بشأن الفساد؛ لا يأخذ في اعتباره سوى القطاع الحكومي، حيث يركز على “استخدام المسؤولين مناصبهم العامة في تحقيق أغراض شخصية”. وهو بهذا يتجاهل مسائل كثيرة، مثل: التدفقات المالية المحظورة، وغسيل الأموال، وما تسميه الشفافية الدولية “ممكّنو الفساد”. 

ويمضي صاحب المقال في التثريب على هذا النوع من المحاربة بقوله: وأنت ترى من هذا المنظور الضيق، أن الرشوة كأنها انحصرت في طرف واحد وهو مَن يقبلها،  في حين أن العين زائغة عمن يدفعها. ليس ذلك فحسب، بل ثمة صمت عن ممكنات أخرى للفساد “ممكنوا الفساد”. فالعين تزيغ عن موظفي المصارف في لندن، وزيورخ، حين يقبلون المال القذر، وعن شركات محاماة في نيويورك لتحويل تلك الأموال إلى أصول ثابتة، وعن ما يحدث في الملاذات الضريبية في إخفاء ملكية الأموال القذرة عبر شركات وهمية. 

ويرى صاحب المقال أن التفكير في علاج الفساد مع إغفال تلك الأطراف هو أشبه بمناقشة موضوع مدمني المخدرات، مع تجاهل المزارع والمصانع التي تنتجها. أما تجار المخدرات وعصاباتها، والحكومات التي تحميهم،  والمصارف التي تغسل أموالهم؛ فليسوا ضمن محاور النقاش. 

وهذا المنظور الضيق له عواقب كارثية في نظر صاحب المقال. ففي تقرير لمؤشر قياس الفساد، عام 2019، جعل الدنمارك كأنظف بلد في العالم، رغم أنها قبل أشهر قليلة فقط، اعترف أحد أكبر مصارفها بغسيل أموال بقيمة 200 مليار يورو. وهو دليل على وجود مشكلة أكبر داخل منظومة مؤشر مدركات الفساد، بتركيزها على جوانب الفساد التي تحدث في البلدان الأكثر فقراً، مع غض الطرف عن الدول الغربية الثرية. 

وأما عن أمثلة حول أنواع الفساد؛ فيجعل (ديفيد مونتيرو) في كتاب له بعنوان “الرشوة”  (برنامج النفط مقابل الغذاء) أحد الأمثلة السيئة الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة في العراق بين عامي 1995 و2003، حين قامت الولايات المتحدة بغزو البلاد، ومكّنت أكثر من ألفين شركة من التواطؤ مع نظام الديكتاتور العراقي السابق صدام حسين لكي يتجنّب العقوبات المفروضة من الأمم المتحدة. وهو دليل واضح على فشل الأحكام الدولية لمكافحة الفساد، مما مكّن المتنفذين في بغداد من التربح عبر تلقي الرشى من الشركات المتعطشة للنفط، وحرمان المواطنين العراقيين من المأكل والمياه النظيفة، وأبسط الأدوية.

وفي مثال آخر للفساد يشير مونتيرو إلى الصناعات الدفاعية اليونانية أواخر التسعينيات حتى مطلع القرن الحالي، عندما دفعت شركات سلاح أميركية وروسية وأوروبية المال  إلى متنفذين داخل الحكومة اليونانية مقابل الظفر بصفقاتِ أسلحة، بما أدّى إلى تضخم الأسعار، فأضيفت إلى فاتورة الدين العام المستفحل في البلاد مما انتهى بأزمة شلّت البلاد كلياً عام 2009.

ويتطرّق مونتيرو أيضاً إلى فضيحة شركات الأدوية الغربية، في الصين، حين استغلت ثغرة ارتباط مكافآت الأطباء الصينيين  بكمية الأدوية التي يصفونها للمرضى،  مما دفع بالأطباء إلى المبالغة في وصف أدوية للمرضى، حيث قام الوسطاء بدفع رشى للأطباء بالنيابة عن شركات الأدوية الكبرى اليائسة من فرصة أرباح لم تعد ممكنة في الأسواق الغربية. وهذا لم يؤدِّ فقط إلى خلل الثقة بالأطباء، بل أفضى أيضاً إلى عواقب وخيمة على الصحة العامة، حيث أعلنت الصين – بسبب الاستخدام المفرط للمضادات – عن ظهور بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية  تسببت في كثير من الأمراض، مثل الدرن الرئوي، ومرض الزهري، وفيروسات قاتلة أسماها المسؤولون الطبيون بـ “البكتيريا الكابوس” لأنها ظلّت تقاوم أنواع المضادات الحيوية كافة”.

ومونتيرو يدعو الحكومات إلى الاتفاق لمحاربة “نظام الرشى العالمي”، لا سيما في بلدان، مثل: قبرص، وبريطانيا، والولايات المتحدة، وهي من أهم البلدان في المنظومة المصرفية العالمية. ويضيف بأن الحل الأبرز لهذه المعضلة إلزام الشركات بالشفافية. فاستخدام شركات مجهولة لا تزال ثغرة للمسؤولين الفاسدين لإنكار كونهم طرفاً في عملية ارتشاء. والمساحة المتاحة للفاسدين ستتقلّص كثيراً، في حال عزمت ملاذات الثروة الكبرى، مثل: سويسرا، والولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا؛ الإعلانَ عن المُلّاك الفعليين لأصولها العقارية وشركاتها الكبرى، كما أن الأمر سيُسهّل العمل في إنفاذ القوانين والاتفاقيات ذات الصلة. 

ختاماً، إن مبادئ منظمة OECD  في حوكمة أعمال الشركات للحد من الرشوة وأشكال الفساد،  والتنبيه على أن الفساد لا يقتصر على القابض فحسب، بل يشمل الباذل والوسيط، هو يتفق مع حديث “لعن الله الراشي والمرتشي والرائش”. وتوجيهات المنظمة حول حوكمة الرشوة والفساد ينبغي أن تُقرأ بجانب ما لفت به النظر – مونتيرو – باستعراضه أشكال الفساد الموجودة في العالم،فالأمثلة والتحليل الذي قام به منتيرو يعدّ ترجمة عملية لمبادئ هذا الفصل أو لائحة تفسيرية لها. والأمر مهم في محاربة هذا الداء،  عدا ذلك فإن الفساد الحكومي المتصاعد في أماكن، مثل: الفلبين، وروسيا، سيصبح عُرفاً عالمياً – كما يقوله مونتيرو- ويضيف بأنه لو تأمّلت فقط في كمية المبالغ الصغيرة التي تدفّقت إلى الولايات المتحدة بهدف تدجين نظامها السياسي؛ لأدركت حجم الخطر. ذلك أن محاربة الفساد ليس غاية في ذاته فحسب، بل لأنه ضروري للدفاع عن سقوط الدولة. 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق