القراءة الاستثمارية لعمليات التقاضي

0 تعليق ارسل طباعة

حماية الاستثمار عملية دائمة ومستمرة، وهي محط عناية عليا على مستوى الدول، وترتكز في أغلبها على الجانب التشريعي (سن الأنظمة والقوانين)، وفي بلادنا الغالية – حرسها الله – يمكن إيجاز الجانب التشريعي في محاور ثلاثة أساسية، أولها: إصدار نظام جديد مستقل، أو تحديث الأنظمة السارية وتطوير لوائحها، أما المحور الثاني فهو: تحديد السياسات والاستراتيجيات الوطنية والإجراءات التنفيذية كالاستراتيجية الوطنية للاستثمار في المملكة العربية السعودية، وما يصدر عن مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية ممثلاً في اللجنة الوطنية العليا للاستثمار، وتهدف تلك السياسات أو الاستراتيجيات أو الإجراءات، لبيان المبادئ الأساسية، والتوجهات العامة الرئيسية، وقد تخاطب بها جهة معينة، أو تتوزع فيها الأعمال التنفيذية الكبرى على عدة جهات، كما أن صدورها في الغالب يأتي نتيجة رصد للواقع ونظرة شاملة تقود نحو المستقبل، ويدخل فيها ما تتقدم به الجهات المعنية من معطيات، تكشفت لها من واقع التطبيق والممارسة، ليحصل بناء عليها أخذ بالحلول المقترحة منها لمعالجة ذلك الواقع، والمحور الثالث هو: إيجاد جهة مستقلة معنية بشق من العملية الاستثمارية بشكل قانوني مرن (كالمركز الوطني للتخصيص على سبيل المثال المعني بعملية التخصيص أياً كانت الجهة المتقدمة بالمشروع)، وبين المحورين (الثاني والثالث) تداخل وخطوط تماس، وبحكم قيادة الدولة – حرسها الله – للعملية التشريعية فعادة ما نجد ضبطاً لتلك الخطوط، ومراعاة لها في مسارات التنفيذ.

ووفقاً للرصد المشاهد فقد حققت رؤية 2030 المباركة منذ انطلاقتها، نجاحاً واضحاً في إزالة المناطق الضبابية، خاصة عندما تتوزع الموافقات اللازمة للإجراءات بين الجهات، أو تتقاطع فيها الاختصاصات بين عدد من الجهات، ويكون التقاطع في مستويات متفاوتة، إضافة إلى إرساء دقيق لعوامل التمكين والحوكمة، وتحقيق استباقية استثنائية في بناء الممرات الآمنة للاستثمار، وتحديد المسارات المشجعة، مع وضع القيود والشروط بما يحقق توازناً وفعالية إجرائية، تصب في مصلحة أطراف العملية الاستثمارية، ولهذا يتضح جلياً وجود اختلاف محمود في أشكال المعالجة، طبقاً لحجم المجال الاستثماري، وخصائص دورة المال فيه، والنتائج المرجوة منه، ولذا كثيراً ما نجد للرؤية  – تمسكاً بمبدأ الحماية – حضوراً لافتاً في الرفع للجهات التشريعية بالترجيح بين أحد المحاور الثلاثة السابقة، أو دفعاً للأخذ بها جميعاً، أو تركيز منها على الجمع بين المحورين (الأول والثالث) واستبقائها للمحور الثاني كوسيلة للتحرك بناء على معطيات التنفيذ، التي لا يستطيع أحد استشراف كافة صورها في المراحل المبكرة، وتلك رسالة حازمة، على سعي فعلي وجاد في تحقيق أحد الأهداف الشاملة للرؤية، وهو تنمية الاقتصاد وتنويعه، والتزام ثابت بتبني أفضل الأنظمة واللوائح والقواعد التنظيمية.

وبالانتقال إلى الفعل الاستثماري فإن أول لبنة لحمايته هو المستثمر نفسه؛ لأنه المعني الأول بحماية استثماراته أيا كان وجه الحماية اللازمة لها، وفي مقدمتها الأخذ بالإجراءات النظامية، والتأكد من الالتزام بها، من خلال الحماية القانونية الدائمة لأوجه نشاطه الاستثماري، لما لها من أهمية بالغة، وحاجة متجددة، خاصة إذا ارتبطت عملية الاستثمار بإجراءات متنوعة، وأعمال متتابعة متعددة، يبنى كل منها على إنجاز سابق يلزم إتمامه وتسليمه، وعند تحقق ذلك فإن وجود التدخل القضائي لاحقاً – في حال اللجوء لخيار التقاضي – سوف يساعد في إعادة التوازن، وتطبيق القواعد والمبادئ، أما أن يهمل المستثمر الأخذ بمبدأ الحماية بالكلية، ثم يظن أن عملية التقاضي وحدها ستحقق له الحماية الكاملة فهو أمر غير سديد، لأن المبادئ الأساسية التي يلجأ القضاء إليها في جملتها، تعتمد على عناية المستثمر وحيطته، وحرصه الصحيح، والتزامه بالقواعد والإجراءات المعتادة، وغير خاف بأن إجراءات الحماية لا تتحقق إلا بالاستعانة بالحذاق من أصحاب التخصصات المهنية، ممن لا يقتصر رأيهم على دقائق المعارف الفنية في تخصصاتهم، بل يحسنون كذلك التمييز بين الرأي الفني والرأي التجاري، وتقدير تكلفة ممارسة الأعمال التجارية، والمخاطر المحتملة أو المترتبة على بعض الإجراءات، بما يكفل للمستثمر المقدرة على التحرك السليم.

وبما أن عمليات التقاضي في المحاكم الإدارية وفقاً لما تكشفه الأحكام الإدارية المنشورة، تحمل كماً هائلا من المعرفة المستترة، وقدراً كبيراً من البيانات الخام الخاملة، غير المقدرة مالياً عند كثير من المستثمرين، كما هو الحال مع كثير من جوانب المعرفة المجردة، وسعياً في إظهار بعض من تلك القيم، نضع في هذا المقال إجابة موجزة عما تكشفه سوابق القضاء الإداري من فوائد لحذاق المستثمرين، خاصة ممن يرتبط في استثماراته بالقطاع الحكومي، ويضع عمليات التقاضي ضمن المخاطر التي يلزم العمل على تلافيها، وتقدير ما ينتج عنها في حال اللجوء لها.

إن فحص عمليات التقاضي أمام المحاكم الإدارية من منظور القراءة الاستثمارية، تعطي فهماً واقعياً لطبيعة العقود الحكومية، مع تصور كامل لمختلف أنواعها، وأوصاف أحجامها، وأشكال الاختلاف بينها، وتأثير ذلك على آليات الدخول فيها، والإجراءات السليمة للتعامل مع كافة المتغيرات التي تقتضيها الحالة الطبيعة لتنفيذها، إضافة إلى الإلمام بتصرفات بعض الجهات، مما يمنح المستثمر دقة في مراحل التعاقد المبكرة، من فهم الأعمال المطلوبة وصور إنجازها، وتحديد الاستفسارات اللازمة، ومدى حاجته لمراجعة بعض الإجراءات، ومواد العقد وبنوده، كما تحقق له القراءة الاستثمارية معرفة بأكثر الجهات التي تحصل منها أخطاء أثناء فترة التعاقد، ونوعية تلك الأخطاء، وآثارها المادية، ومدى إخلالها بالتوازن المالي للعقد، فضلاً عن الإحاطة بنوعية المشاريع الحكومية، التي ترتفع فيها نسبة التقاضي، ومدد التقاضي – التي تقلصت ولله الحمد – بشكل إيجابي بانتقال كافة المحاكم الإدارية للتقاضي الإلكتروني، إضافة إلى إدراك المؤشرات المنذرة بقرب حصول الخلل، أو الوقوع في الخطأ، أو تجاوز نطاق الأعمال، أو ظهور الحاجة لإجراءات توثيقية، تكون بمثابة الدليل والإثبات على صدور توجيه معين من الجهة، أو ظهور إجراء تعديلي، أو أي أعمال إضافية جديدة، أو تحديد لطريقة تنفيذ معينة للعقد.

وإذا تعمق المستثمر من خلال خبرائه في القراءة الاستثمارية الفاحصة لسوابق القضاء الإداري، فإنه سيعرف من مجموع أنواع الأحكام المختلفة، بعض الجهات التي تنفرد فيها إدارة الاستثمار بالعمل، مع عزل لبقية الإدارات خاصة الإدارة القانونية، والجهات التي تختار فيها الإدارة القانونية خيار التقاضي سبيلاً وحيداً للمعالجة، وتحول بين المستثمر وإدارة الاستثمار في مناقشة أشكال الحلول، وسبل المعالجات المتعددة التي سبق للقضاء الإداري اعتبارها والأخذ بها، كما سيكون لدى المستثمر القدرة على تمييز الجهات الحكومية التي تولي فرصها الاستثمارية، إعداداً صحيحاً وكاملاً قبل طرحها أمام المستثمرين، والجهات التي شاب الضعف إعدادها، ونال التخبط حظه منها، بسبب محاولاتها المتأخرة، في إخفاء قصورها، أو تقصيرها في مراحل الإعداد، وعدم تطبيقها لبعض الأنظمة الواجبة عليها، مما وضع المستثمر الذي تعاقد معها في وضع مالي خانق، لتصاعد التكاليف المباشرة وغير المباشرة عليه، سواء اختار المضي منفرداً في المعالجة، أو لجأ مكرهاً للقضاء.

كما سيكون لدى المستثمر – من خلال خبرائه المتمرسين- القدرة على اكتشاف سلوك الجهة عند الدخول في مراحل التقاضي، ومدى تكرارها للممارسات الملغاة، وفي ذات الوقت اكتشاف سلوكيات المستثمرين التي عابها القضاء أثناء نظر النزاع، فضلاً عن الإلمام بالأخطاء التي وقع فيها المستثمرون، وكيف تسببت تلك الأخطاء لاحقاً في خسارة مالية، وأصبحت مثالاً للإخفاق في تقدير التوقعات المالية، أو عرضة لإيقاع الغرامات، أو الإلزام بالتعويضات، نتيجة المخالفة الظاهرة، وعدم الالتزام بشروط التعاقد وبنوده.

كما ستجلي القراءة الاستثمارية الحالات الواقعية التي تفقد فيها العقود الحكومية توازنها المالي، وكيف تكون المعالجات القضائية، ومنحى تصاعدها نحو فسخ العقد، أو محافظتها على استمراره، بالتزامات مالية محددة، طبقاً لنظريات دقيقة متبعة.

إضافة إلى أن هذا النوع من القراءة سيتيح للمستثمر وعياً بجملة من الحقائق الثابتة التي من أبرزها:

  1. أن التقاضي ليس حلاً لكل الإشكالات التي تطرأ على العقود.
  2. أن الاستعانة بالمهني الحاذق خاصة من ذوي الاستشارة والرأي لا تكون في المراحل المتأخرة للتعاقد أو التنفيذ؛ لأن الرأي – خاصة الرأي القانوني – عندها سيفقد جزءاً كبيراً من العملية الإجرائية، التي كان يلزم القيام بها في مراحل سابقة، وأوقات ماضية، من عمر التعاقد، وزمن التنفيذ.
  3. أن وجود حالة التقاضي في العملية الاستثمارية خاصة ما يرتبط منها بقطاع العقود الحكومية تفقد المستثمر قدرته على تقدير الموقف المالي وبسط السيطرة المعتاد على النفقات التشغيلية.
  4. أن لدرجات التقاضي تأثيراً بالغاً على النتيجة التي يؤول إليها الحكم القضائي، خاصة عندما تعرض القضية أمام المحكمة الإدارية العليا وقد صدرت بإلزام مالي ضد جهة الإدارة، على نحو ما جرى بيانه في مقال سابق.
  5. أن للقضاء الإداري دوراً أصيلاً في التفسير، وإيضاح الجوانب النظامية والقانونية للعقود الحكومية وعمليات الاستثمار من خلالها.

“إن قراءة السوابق القضائية من منطلق تعزيز حماية العملية الاستثمارية من المخاطر ناجعة متى ما كانت قراءة فاحصة، وبذل في سبيلها الجهد؛ لأن الوصول المجاني لبيانات الأحكام القضائية المنشورة لا يتحول إلى معرفة بمجرد الحصول أو الوصول”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق