الجاي يستعرض الأهمية التاريخية لـ"الفخارين" في الحياة اليومية للفاسيين

0 تعليق ارسل طباعة

سلط الكاتب والحكواتي إدريس الجاي الضوء على مجموعة من المحطات التاريخية التي مرّت منها صناعة الفخّار بمدينة فاس، خاصة في القرن الثاني عشر ميلادي، وبداية الثمانينيات، ومنتصف القرن التاسع عشر، مشيرا إلى أن “هذه الصناعة لعبت دورا محوريا في الحياة اليومية للساكنة”.

وتطرّق الجاي، في مقال له بعنوان “الفخارين.. محور الحياة اليومية”، إلى الأهمية التي حظيت بها صناعة الفخّار بمدينة فاس، مذكّرا بأن الفخارين كانوا يصنعون لسكان فاس كل ما يحتاجونه في حياتهم اليومية من الأواني المنزلية، ولافتا إلى أن “هذه المهنة كان لها دائما من يجدد فيها، ويجعلها تساير تطورات كل مرحلة”.

نص المقال:

لقد عرفت فاس الغربية، عدوة القرويين، جملة من الحرف والصناعات التي تفردت بها دون غيرها من أجزاء فاس الأخرى، عدوة الأندلس وفاس الجديد. وكانت هذه الإنتاجات موجهة للاستهلاك الداخلي وللتصدير، كالدباغة والحياكة، والنسيج والصباغة، والنجارة والأواني المنزلية النحاسية، والعطور وآلات الحرب والفروسية، وغير ذلك، باستثناء صناعة الحدادة، التي تشترك فيها مع عدوة الأندلس. لكن هذا الجزء الشرقي من مدن فاس، عدوة الأندلس، انفرد هو الآخر بصناعة محلية هامة تخدم الحياة اليومية، وتعد عمودا فقريا في حرف البناء وتوابعها من الآجر، القرميد والزليج.

فصناعة الفخار، التي كان حي الفخارين، أو “دار عمل” كما تسميه العامة، يحتضنها، لم توجد في أي جزء من مدن فاس الأخرى، سوى في عدوة الأندلس. وهذا منذ زمن قديم. “وبقرب أسوار المدينة يعمل صانعو الآجر، وتقوم أفران الفخارين. وتجد تحت ذلك سوقا كبيرا يباع فيه الفخار الأبيض، أي المطلي كالقصعات والقدور الختلفة الخ”، كما يقول حسن الوزان في كتابه وصف إفريقيا.

لقد بقيت منطقة “الفخارين” مجال صناعة الفخار، حتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، حين بدأ صناع الفخار الكبار ينتقلون إلى خارج عدوة الأندلس، إلى “عين نقبي” في طريق وادي سبو، نظرا لتوسع مشاريعهم وعملهم على تصدير منتجاتهم إلى المدن المغربية وغيرها. كذلك تم نقل الصناعة الفخار خارج المدينة، تفاديا لكثافة الدخان الذي تنتجه أفران طهي الفخار.

واسم الفخارين لا تنفرد به عدوة الأندلس وحدها، بل يلاقيه الناس ثانية في عدوة القرويين. غير أن الفخارين هنا مجرد زقاق يربط بين ساحة النجارين وسوق العطارين، لا يمارس فيه أي شكل من أشكال صناعة الخزف، وإنما كانت تباع فيه الأواني المنزلية الفخارية، ولاحقا المعدنية والزجاجية، كما أنه يحمل إلى جانب اسم الفخارين اسم القشاشين.

في منتصف القرن التاسع عشر يصف الرحالة الألماني غيهارت غولف هذا السوق قائلا: “من الأعمال التي تزدهر بها فاس بصفة خاصة حتى اليوم أذكر غير ذلك صناعة الفخار. صحون كبيرة، شمعدانات صغيرة ومصابيح، ومثلها من الأواني المنزلية التي تصنع بشكل جميل من الطين بنوعية الخزف. حسب أسلوب صناعتنا الخزفية الألمانية القديمة فهي ملونة برسومات زرقاء دكنة ومزججة”.

وتعد صناعة الخزف من أقدم الصناعات التي عرفتها البشرية ومارستها شعوب كل القارات، وهذا منذ آلاف السنين، مع استثناءات قليلة، منها شعوب القطب الشمالي وشعوب أدغال أمريكا اللاتينية. وتعود أقدم الاكتشافات الخزفية الطينية المحروقة إلى العصر الحجري القديم الأعلى. والأشكال الخزفية الأولى تعود إلى أكثر من 24000 سنة. وأقدم الأواني الخزفية المعروفة إلى حد الآن وجدت في كهف Xianrendong، في الصين الشعبية، وقد تم إنشاؤها حوالي 19.000 إلى 20.000 سنة. كما عرف استخدام محدد للأواني الخزفية في اليابان، استنادًا إلى السفن التي يتراوح عمرها بين 11000 و15800 سنة، وكانت تستخدم من قبل الصيادين وجامعي الثمار في ذلك الوقت لطهي الحيوانات البحرية وحيوانات المياه العذبة. وأقدم الخزف في إفريقيا عمره 12000 سنة، تم اكتشافه في أونجوغو في مالي. وأقدم الأواني الخزفية تم اكتشافها في المغرب حتى الآن في منطقة حسي أونزكا جنوب الناظور، وتعود إلى 9000 سنة، وهي أقدم أوان خزفية تم اكتشافها في المغرب الكبير.

وقد عرفت شعوب شمال إفريقيا ككل شعوب العالم صناعة الفخار البدائية، ثم انتقلت إلى مرحلة تطويرهذه الصناعة والتفنن فيها، مع اختراع عجلة الخزاف عالية السرعة حوالي 4000 قبل الميلاد، إذ بدأ إنتاج السلع ذات الأشكال الضخمة في بلاد ما بين النهرين. ثم أنتج السيراميك المزجج منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. الذي عرفت به بلاد ما بين النهرين ومصر.

والمغرب الكبير كجار ممتد لمصر عرف هو الآخر هذه الصناعة المتطورة قبل الاستعمارالفنينقي والروماني لشمال إفريقيا. ولاحقا عرفت هذه الصناعة في بلاد الغرب الإسلامي تطورا وفنية عبر التأثير الشرقي والأندلسي.

ولعبت هذه الصناعة دورا محوريا في الحياة اليومية للساكنة، حتى إننا بالكاد نجد مجالا من مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية لفاس القديمة ليس لها فيه دور يذكر. ودور هذه الصناعة في الحياة الأسرية يلخصه روجي لطورنو في كتاب “فاس قبل الحماية” بقوله: “وكانت بعض هذه الآنية كأباريق الفخار (برادات) مصنوعة من الطين الأبيض، وتزين أحيانا بالقطران، ويجعل فيها الماء، وبالنسبة للبن، والزيت، والسمن، كانت تستعمل جرار (خوابي) مزججة من الداخل. وكانت جميع هذه الأشياء خشنة الصنع من عمل الفخارين والمدعوين ‘حراشة'”.

فالمرحلة الأولى لتصنيع الأواني تكون فيها خشنة، لتتم زخرفتها لاحقا برسومات وأشكال يقوم بها الفخارون، ثم تأتي المرحلة الثانية، وهي عمل الخزفيين. يقول لطرنو: “إذا تعلق الأمر بأطباق الكسكس أو الحلويات، وأقداح، وأوعية يريدونها مزخرفة، كانوا يشترون خزفا مزخرفا برسوم متعددة الألوان يسودها الأزرق الداكن، وكانت من عمل الخزفيين (الطلاية)، ولها شهرة جديرة بها في المغرب كله، بل حتى في الخارج”.

لقد كان الفخارون يصنعون لسكان فاس كل ما يحتاجونه في حياتهم اليومية من الأواني المنزلية، باستثناء أواني الطبخ، التي كان التجار الفاسيون يستوردونها من الرباط وسلا، ولذلك لم يكونوا يستعملون من “الطواجن” إلا المستورد من الرباط أو سلا، المعروف بـ”الطاجين السلاوي”. فطين فاس هو طين جيد لكل ما سبق ذكره من الأواني للاستعمال المنزلي أو التجاري، بل هو الأفضل في ما يتعلق بصناعة الزليج، لكنه غير مناسب لأواني الطبخ.

وصناعة الفخار في فاس لم تقتصر على صناعة الحاجيات المنزلية، بل تعدتها إلى مجال مواد البناء، فـ”الحراشة” كان لهم دور هام في المجال العمومي والخصوصي، إذ كانوا يصنعون من مادة الفخار قنوات مجاري المياه، سواء للماء العذب أو ماء الفضلات، (قادوس، ج قوادس).

وحتى إن كانت صناعة الآجر، الذي لا غنى عنه في تشييد المباني والمنشآت على اختلاف أشكالها، لها مختصون يجمعهم مجال معروف باسمهم (لواجريين) خارج المدن الثلاث، عدوة الأندلس، والقرويين، وفاس الجديد، وهو قبالة الصور الجنوبي لفاس الجديد والملاح، في سفح مرتفع ظهر المهراس، قريبا من مقالع الطين، فإنها في الأصل صناعة تولدت عن صناعة الفخارين، فهناك من الفخارين من يصنعون الآجر أيضا في فترة فراغهم، أو حين تكثر الحاجة إليه؛ كما أنهم يصنعون القرميد لسطوح المباني ذات الطابع الديني أو العمومي، ونوع من الآجر الصلب خاص ببناء أدراج المنازل والمنشآت العمرانية (الدروج)، ويسمى هذا النوع “حصار”.

لقد مثلت ومازالت صناعة الفخار بالنسبة لمجموعة من الحرف والصناعات أساسا هاما، فإلى جانب أهميتها بالنسبة للأواني المنزلية، الآجر والقرميد للبناء، وقنوات المياه قديما، فإنها تشكل مادة أساسية لصناعة الزليج؛ فالفخارون يشكلون من الطين لوحات كبيرة تقسم إلى مربعات بطول وعرض 10 سنتمرات، وبعد طهيها في الفرن وتلوينها يقطعها “زلايجة” بتقنية خاصة إلى أجزاء صغيرة، قد تصل أحيانا إلى أقل من سنتيم واحد، ثم تركب إلى بعضها، حسب الرسومات، لتكون في النهاية فسيفساء غاية في الدقة.

لقد مثلت صناعة الفخار قاعدة هامة لصناعة عدد من الآلات الموسيقية النقرية التقليدية، مثل “التعريجة”، و”الدربوكة”، و”أكوال”، أو “الدعدوع”، أي “التعريجة الكبيرة”، لموسيقى حمادشة، و”الطبلة” لموسيقى عيساوة، و”الكدرة” للموسيقة الحسانية، قبل دفعها إلى “الزواقة” ثم “التجليد”. كما خدم الفخارون المجال العلمي قديما من خلال صناعة الدوايات، محابر الصمغ والمداد، وفوانيس الزيت للمذاكرة وسهر الليلي للتحصيل العلمي.

وخارج المغرب عمل الفخارون لصالح مجال الصيد، من خلال صنعهم جرات معينة تربط إلى بعضها البعض وتلقى في مياه البحر، حتى تدخلها الأسماك التي تتحاشى الضوء أو للاختفاء من أعدائها، ثم بعد ذلك يسحب الصيادون الجرات إلى القوارب بأسماكها. ومازال ذلك يمارس في جزيرة جربة في تونس.

لقد عرفت صناعة الفخار خصوصيات في كل منطقة، ليس في المغرب فحسب، بل في كل العالم، كما أنها تأثرت وأثرت هي الأخرى في غيرها.

منذ القرن الثاني عشر الميلادي استقبلت مدن عديدة في شمال إفريقيا، وخاصة مدينة فاس، وفودا من الأندلسيين، إثر النزاعات السياسية والدينية. وكان جزء هام من هؤلاء الوافدين على فاس يتقنون عددا من الحرف ومنها فن الخزف. وأثر هؤلاء الأندلسيون بأساليبهم الصناعية وأشكالها ورسوماتها تأثيرا كبيرا في صناعة الخزف في فاس، ومنها امتد هذا التأثير إلى جهات من المملكة، أصبحت بدورها تقوم بتصدير منتج الخزف إلى الدول المجاورة، سواء في إفريقيا أو في أوروبا.

لقد ارتبطت هذه المهنة ككل المهن التي كانت تمارس أو مازالت تمارس في فاس بالمعتقد الديني بحثا عن البركة، والرضى، فكما أن لكل حرفة حاميها وتطلب بركته فللرحويين سيدي عبد الواحد الزنبور، وللدباغة سيدي يعقوب الدباغ، وسيدي علي بوغالب للحلاقين، وللفخارين سيدي مومن الفخار؛ فقد ذكره غير واحد، مثل السخاوي في “الضوء اللامع”، الونشريسي في “وفيات”، والعلامة عبد الله كنون في “مشاهير رجال المغرب”؛ على أنه كان فقيها، أستاذا، له تآليف في علوم القرآن رسما وقراءة؛ توفي بفاس سنة 816 هـ 1414 ميلادية في فترة حكم آخر السلاطين المرينيين عثمان الثاني الذي حكم من 1421 الى 1465، غير أنه لا يعرف شيء عن حياته، وكل ما ذكر هو سنة وفاته؛ وذكر أنه من تونس. وكان الفخارون في مواسم الجفاف يأتون سيدي ميمون الفخار ليتوسل لهم عند الله لينزل المطر.

لقد كان لهذه المهن دائما من يجدد فيها، ويجعلها تساير تطورات كل مرحلة. وفي المرحلة الحديثة كان هناك رجل أبدع في هذا المجال كل الإبداع، ومنح فن الخزف هوية مغربية، كما ساهم بذلك في جعل الإنسان الفاسي والمغربي عامة يتحرر من عقدة التبعية والافتتان، من ناحية الذوق، بالخزف الصيني والغربي، هو رجل الأعمال عبد الهادي التاجموعتي.

كان أثرياء المغرب، وخاصة الفاسيين، يستوردون الكثير من المعدات المنزلية من الغرب، عبر جبل طارق، وخاصة الأواني، وعلى رأسها صحون الطاووس الإنجليزية، التي كانت تزينها أنواع من صور طائر الطاووس، وذات شهرة كبيرة، حتى إنها أصبحت من رموز الترف والتباهي بين الأسر الفاسية الثرية. ونظرا لثمنها المرتفع بدأ استراد هذه الصحون من الصين بكلفة أقل، حتى تكون في متناول الطبقة المتوسط ومحدودة الدخل. غير أن عبد الهادي التاجموعتي، الذي كان رجل أعمال ناجح في العديد من المجالات، قام في بداية السبعينيات من القرن الماضي بإنشاء شركة “كوصيما” التابعة لمجموعة التاجموعتي، وبدأ يطور أساليب إنتاج الخزف بطرق آلية حديثة، انبثقت عنها أواني منزلية بجودة عالية، كجودة صحون الطاووس، لكن برسومات الزليج المغربي ـ الأندلسي، وخاصة لون فاس الأزرق الأزوردي؛ وقد راعى فيها خصوصية احتياجات المطبخ المغربي وتقاليد المائدة المحلية. ونال هذا المنتج إقبالا وشهرة كبيرة في كل أنحاء المغرب، وخارجه، حتى إنه أصبحت بالكاد تخلو مائدة مغربية ميسورة أو متوسطة الدخل منه. كذلك أنتج عبد الهادي التاجموعتي أنواعا من الزليج تحمل هي الأخرى الهوية المغربية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق