يونس الديدي: مفهوم الدولة بين العسكر والسياسيين؟
يونس الديدي
في تاريخ الأمم، كانت المنظومة العسكرية تمثل درعًا للدولة، ورمزًا للحكمة والانضباط والتضحية. كان الجندي سابقًا ليس مجرد حامل للسلاح، بل حاملًا لفكرٍ وقيمٍ تساهم في بناء المجتمع. كتب الجنود القدماء كتبًا، وأسهموا في صياغة رؤية واضحة حول العدالة والحياة الاجتماعية، وكانوا جزءًا من النسيج الثقافي والسياسي العام. لكن في منطقتنا العربية، انقلبت المعادلة، وأصبح مفهوم الدولة عند العسكري يحمل دلالات غريبة ومتناقضة، تتحول فيها المؤسسة العسكرية من حامية للدولة إلى رمز للتسلط والقهر.
الجندي بين الماضي والحاضر
في العصور الماضية، كان الجندي يحمل رسالة سامية. لم يكن فقط يؤدي وظيفته الدفاعية، بل كان جزءًا من المجتمع. أسهم في القضاء، شارك في الإنتاج الفكري، وكان قريبًا من الناس في فكره وتطلعاته. أما اليوم، في أغلب البيئات العربية، أصبحت المنظومة العسكرية كيانًا معزولًا، ينظر إلى الشعب وكأنه عدو محتمل، ويتعامل مع الدولة كغنيمة يجب الاستحواذ عليها.
هذا التحول يثير تساؤلات جوهرية: كيف أصبح الجندي يرى الدولة؟ وكيف أصبحت الدولة تُدار بمنطق عسكري لا يتلاءم مع طبيعتها المدنية؟ لفهم هذا الواقع، يجب علينا أن نلقي نظرة عميقة على العقلية العسكرية وكيف تشكل مفهوم الدولة في أذهان أفرادها.
العقلية العسكرية وفهم الدولة
العقلية العسكرية في جوهرها قائمة على الانضباط، الأوامر، والطاعة المطلقة. هذه القيم التي تنجح في إدارة المعارك ليست بالضرورة ملائمة لإدارة الدول. الدولة كيان معقد، تتطلب إدارة شؤونها فهمًا عميقًا للتنوع الاجتماعي، الاقتصادي، والثقافي، وهو ما يتناقض مع رؤية العسكري الذي ينظر إلى الأمور بمنطق ثنائي: صديق أو عدو.
في كثير من الدول العربية، نرى الجنرالات ينتقلون من الثكنات إلى قصور الرئاسة دون أن يتخلوا عن ماضيهم العسكري. تراهم يتحدثون إلى شعوبهم وكأنهم ما زالوا يخاطبون جنودًا في معسكر تدريب. يستخدمون نفس اللغة الآمرة، نفس الحذر، ونفس التوجس، مما يعمق الفجوة بينهم وبين الشعب.
المؤسسات العسكرية والسياسة
المؤسسات العسكرية، بحكم طبيعتها، يجب أن تكون محايدة، بعيدة عن التجاذبات السياسية. دورها الطبيعي هو حماية حدود الدولة وضمان استقرارها، لا التدخل في شؤون الحكم. لكن في منطقتنا، تحولت هذه المؤسسات إلى لاعب أساسي في السياسة، يتنافس على السلطة ويمارس النفوذ في كل مفاصل الدولة. هذا التداخل بين العسكري والمدني يخلق واقعًا مشوهًا، حيث يصبح الجنرال سياسيًا يرتدي بدلة مدنية، لكن عقليته تبقى عالقة في عالم الأوامر العسكرية.
من جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن بعض القادة السياسيين استفادوا من خبراتهم العسكرية في بناء مسيراتهم. لكن الفارق يكمن في أن هؤلاء نجحوا في تحويل تجربتهم العسكرية إلى رؤية مدنية تخدم الشعوب، بعيدًا عن الانعزال والولاءات الداخلية التي غالبًا ما تعزل العسكريين عن مجتمعاتهم.
الدولة التي تحترم الإنسان
الدولة التي يحلم بها المواطن ليست تلك التي تُدار بالعقلية العسكرية، بل تلك التي تعطي الأولوية للإنسان، تحترم حقوقه وكرامته، وتتيح له فرصة العيش بحرية وعدالة. الدولة ليست ثكنة عسكرية تُدار بالأوامر، بل فضاء مدني تتلاقى فيه الأفكار وتُحترم فيه الاختلافات.
لكي تتحقق هذه الرؤية، يجب على المؤسسات العسكرية أن تعود إلى دورها الطبيعي كحامية للدولة، لا كحاكمة لها. كما يجب أن يُعاد النظر في التعليم العسكري ليشمل قيم الديمقراطية واحترام الحقوق المدنية، حتى يتمكن العسكريون من فهم الدولة بمنظور شامل يخدم الإنسان والمجتمع.
ما ينبغي أن يكون
ما نحتاجه اليوم هو إعادة صياغة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والدولة. يجب أن يكون هناك وضوح في الأدوار: المؤسسة العسكرية للدفاع عن الوطن، والمؤسسات المدنية لإدارة شؤونه. هذا لا يعني إقصاء العسكريين من المشهد السياسي تمامًا، بل وضع ضوابط تضمن عدم هيمنتهم على الحياة المدنية.
على المستوى الفردي، ينبغي للعسكريين الذين يدخلون المعترك السياسي أن يتخلوا عن العقلية العسكرية، ويتبنوا رؤية مدنية قائمة على الحوار والشراكة. الولاءات الداخلية التي تجمع العسكريين ببعضهم يجب أن تُستبدل بولاء للوطن والمواطنين.
الخاتمة
إن الحديث عن مفهوم الدولة عند العسكري هو في جوهره حديث عن الفرق بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. في حين أن المنظومة العسكرية لعبت دورًا تاريخيًا مهمًا في حماية الدول، فإن تحولها إلى لاعب أساسي في السياسة أدى إلى تشويه مفهوم الدولة في كثير من البلدان العربية. الدولة التي تحترم الإنسان هي الدولة التي تُدار بعقلية مدنية، تضع الإنسان في قلب سياساتها، وتمنح الأولوية للحقوق والحريات. وهذا يتطلب إعادة بناء العلاقة بين المؤسسات العسكرية والدولة على أسس جديدة، تضمن احترام الحدود بين المدني والعسكري، وتحقيق التوازن الذي يخدم الجميع.
كاتب مغربي
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: