في كل مناسبة أو مؤتمر تتحدث الحكومة ومسئوليها عما تم تحقيقه من إنجازات في ملف البنى التحتية من طرق وكباري ومحطات ومدن جديدة وغيرها من المشروعات العملاقة التي استلزمت استثمارات ضخمة، وعادة ما يرتكز السياق باعتبار هذا النوع من الإنفاق محفزًا لتحريك عجلة الاقتصاد الكلي، وتوفير فرص العمل، وتهيئة المناخ الجاذب للاستثمار.
وفي حين أن هذه الرواية من الممكن أن تمر مرور الكرام على رجل الشارع العادي رغم ما يعانيه من مصاعب كثيرة في توفير نفقاته بما قد يجعله في يقين بأن تلك المعاناة هي ضريبة الإصلاح من أجل مستقبل أفضل، إلا أنه من الناحية الاقتصادية لا بد لها من وقفة لتوضيح الأثر الحقيقي للإنفاق المتزايد خلال الفترة الماضية سواء على مستوى الاقتصاد أو المجتمع.
ولفهم هذه المسألة، فلابد بداية من توضيح تأثير الإنفاق الحكومي على المُضاعف الاقتصادي Multiplier Effect، وهو مفهوم يعبر عن الأثر الذي يحدثه زيادة الإنفاق في الاقتصاد، خاصة مع النظرية القائلة بأن الإنفاق الحكومي الذي يهدف إلى تحفيز الاقتصاد يؤدي إلى زيادة في الإنفاق الخاص “إنفاق المواطنين” الذي يحفز الاقتصاد بشكل إضافي.
على سبيل المثال، إذا قامت الحكومة بتمويل نظام النقل العام في طريق ما، فسوف تقوم شركات البناء الخاصة ببناء أعمال تجارية ومساكن على طول هذا الطريق، وهو ما يستلزم وجود عمال في تلك الشركات سوف يتحصلون على رواتب تحسن دخلهم مصدرها الإنفاق الحكومي، وسوف تزيد قدرتهم على شراء احتياجاتهم اليومية، وأيضا سوف يرتب ذلك أرباحا لدى البائعين سوف يستخدمونها لتوسيع أعمالهم أو شراء سلع أخرى، أي أن إنفاق الحكومة سوف يؤدي إلى موجات متتالية من الإنفاق.
ويتأثر المضاعف الاقتصادي بعدة عوامل منها معدل الادخار فإذا كان الأفراد يميلون إلى الادخار أكثر من الإنفاق، فإن تأثير المضاعف يكون أقل، وكذا يتأثر بالاستيراد خاصة وأنه إذا زاد الإنفاق على السلع المستوردة بدلًا من السلع المحلية فإن الفائدة تتسرب إلى الخارج، كما أن الضرائب المرتفعة تقلل من الأموال المتاحة للإنفاق.
وتشير النظرية الاقتصادية التقليدية، إلى أن المزاحمة النقدية -سيطرة الحكومة على نسبة معتبرة من التمويل المتاح-، ينتج تقليل التأثير المضاعف للإنفاق الحكومي، وبالأخص حال كون هذا الإنفاق الحكومي ممولا بالعجز، كما يفترض بعض خبراء الاقتصاد أن تأثير المزاحمة ينفي تماما التأثير المضاعف، بحيث لا يوجد من الناحية العملية أي تأثير مضاعف ناجم عن الإنفاق الحكومي، ومع هذا فإن الاقتصاديين الكينزيين (نسبة إلى الاقتصادي الشهير جون مينارد كبنز) يرون أن التأثير المضاعف يفوق أي آثار سلبية محتملة ناتجة عن مزاحمة نشاط القطاع الخاص.
وبتجاهل كون هذا الإنفاق يأتي من الاقتراض بما يزيد أعباء الدين العام، وأيضا دور التركيز على المشروعات الكبرى السلبي على القطاعات الخدمية الأساسية مثل التعليم والصحة، وحتى مع افتراض أن الإنفاق الحكومي المتزايد -حتى مع تأثير المزاحمة – هو قرار سليم، فحتما هناك حاجة إلى بحث تأثير هذا الإنفاق على الاقتصاد في الدولة من زاوية الأثر على الاقتصاد الكلي وأيضا على مستوى التشغيل.
وبحسب تقارير وزارة التخطيط واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة والتان تتقارب أرقامها، فالمُضاعف الاقتصادي للإنفاق الحكومي في مصر ضعيف على المدى القصير والمتوسط حيث تشير الدراستان إلى ان قيمة المضاعف في حالة مصر أقل من 1. أي ان الزيادة الأولية في إجمالي الطلب عن طريق التحفيز الحكومي تتآكل بسبب التأثيرات التي تتعارض مع الزيادة في الإنفاق العام. وترجع هذه الآثار المضادة في كثير من الأحيان إلى مزاحمة أنشطة القطاع الخاص الإنتاجية ولأن جزءا من الدافع المالي المقصود يترجم إلى واردات أعلى لا تؤدي إلى زيادة الإنتاج.
من التقرير الاقتصادي الشهري لوزارة التخطيط، أغسطس 2021
أما من ناحية التأثير على التشغيل، فإن العاملين بقطاع الإنشاء يبلغون 4.1 مليون عامل من إجمالي 34 مليون قوام القوى العاملة في مصر، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وبالنظر إلى بيانات الائتمان المحلي للقطاع الخاص يمكنا أن نستخلص نسبة العاملين في قطاع الإنشاء في المشروعات الحكومية حيث ستبلغ نسبتهم 73%، أي أن العاملين بشكل مباشر في القطاع طرف المشروعات الحكومية يبلغون 2.9 مليونا أي ما يقارب 8.5% من إجمالي القوى العاملة في الدولة.
الائتمان المحلي للقطاع الخاص (% من الناتج المحلي الإجمالي)
عدد العاملين في قطاع التشييد والبناء
وبافتراض تقاضي كل عامل 150 جنيها يوميا وأنه يعمل 300 يوما سنويا فمجمل الإنفاق على بند العمالة يبلغ 130 مليار جنيه أي حوالي 8 مليار دولار (بسعر صرف 2021)، وعليه فتأثير العمالة يمثل 1.8% من الناتج المحلي لعام 2021.
وفي ضوء ذلك يتضح عدم وجود تأثير ملموس في المدى القصير والمتوسط للإنفاق الحكومي في مصر سواء على الاقتصاد الكلي أو على التشغيل، أما بالنظر للتابعات الأخرى من تضخم مُضاعف وتدهور في العملة المحلية فيتضح وجود تأثير سلبي على جودة الحياة بشكل مبالغ يؤكده ارتفاع تكلفة المعيشة وغياب تحسينات ملموسة في جودة الخدمات اليومية، وكذا الرضا الشعبي بالشعور بأن ارتفاع الأسعار مرتبط بتمويل هذه المشروعات.
تطور التضخم وسعر الصرف في مصر
يدل ذلك على أن الإنفاق الحكومي لا طائل حقيقي منه، فحتى في حال رتب مُضاعف مرتفع (على عكس الوضع الحالي)، إلا أن الاستدامة تظل هي الأهم، خاصة وأن الاقتصاد الذي تقوده الدولة ليس مستدامًا لأنه لا يمكن الاستمرار في تغذية المحرك الاقتصادي بالمال العام، لأنه حتما سوف ينفذ وسوف تزيد من الديون، والتضخم، والهيمنة المالية وسوف ترتفع معدلات الفقر نتيجة لذلك.
وفي جوهر الأمر فقد استقر جموع العلماء المؤيدون لمدرسة تدخل الدولة أن الدولة متى تدخلت فعليها أن تلتزم بالعناصر الثلاثة، بأن تتدخل في الوقت المناسب، وأن تستهدف القطاعات سريعة النمو وأن تكون هذه العملية مؤقتة، بما يؤكد ضرورة أن نلفظ فكرة أن الانفاق العام هو المحرك الاقتصادي الأكبر، فبيانات النمو الاقتصادي نفسها بالإضافة لما سردته سابقا لا ترجح ذلك على الإطلاق.